لــيـــلـــى...
اغلق على نفسه باب غرفته و قذف بجسده المتعب على كرسيه الخشبي...
تنفس بعمق متمتماً: ليله أخرى من الوحدة...
يؤكِد أن الوحدة افضل...
يراوده شعور بان هناك شئ مختلف...
لكنه على يقين بأن هذه الحياة لا تستحق أن تعاش...
تنهد قائلاً: من الحقل للمنزل والعكس... هذه القرية مملة...
يتذكر أقرانه إلا انه يصر على أن الحب كذبه كبيره, بل ضرب من جنون...
تحرك بتثاقل متجهاً إلى ذلك الرف المتهالك, تناول كتاب ظهرت عليه آثار الزمن...
كتابه المفضل...
قرأ الغلاف " مجنون ليلى"
فقد عيّن نفسه ناقداً لتصرفات قيس, فتح الكتاب اعتباطاً
وقع بصره على ما يلي"عشق قيس ليلى حتى فقد رشده فهام على وجهه في الأودية و الغفار, يصرخ(( ليلى)) حتى يسقط مغشي عليه..."
اغلق الكتاب في حنق وقال: دنيا غريبة, اصبحوا يخلدون ذكرى المجانين...
رمى الكتاب على سريره واقترب من النافذه, فتحها على مصراعيها...
دخلت منها نسمات باردة اقشعر منها بدنه...
أحاط جسده بيديه عل ذلك يشعره ببعض الدفئ, ظل واقفاً شاخصاً لبرهه...
مطّ شفتيه وتنهد في غضب...
رجع إلى الخلف خطوه و سحب معطفاً كان معلقاً وعاد إلى مكانه...
وضع المعطف على كتفيه إلا أن ذلك لم يشعره بالدفئ...
اخذ نفساً عميقاً و أخرجه بحرقه...
نظر إلى البدر... أمعن النظر... ضحك...
سأل في سره: لماذا يشبهون الفتاة الجميلة بالقمر؟!! وما المميز فيه؟!!
أجاب مبتسماً: يالهم من مجانين, يحق لهم دام قيس هو المثل...
لا أرى فيه أي جمال وهذا يعني أن ليلى لا تستحق...
اخذ ورقه من مكتبه ووضعها على طرف النافذه, سكن قليلاً ولمعت في عينيه نظرة خبث...
كتب على الورقة ما يلي:
كانت ليله قبيحة جداً وكانت من عائله اشتهرت بالشعوذة فسحرت قيساً ودفنت السحر تحت شجرة الساحرات النابتة في المقبرةِ القديمة عند أطراف الوادي...
قرأ ما كتب بصوت خافت... ابتسم ابتسامه تهكّم, نظر إلى البعيد و قلمه في يده...
برقت في باله كلمه... هم بكتابتها غير أن نسمه هبت فطارت الورقة من يده...
نظر إلى الورقة بازدراء وهي تبتعد...
لم يثنه ذلك عن عزمه فكتب على حافة النافذة:
أتستحق ليلى ما فعله من اجلها قيس؟ وهل يستحق قيس ما فعلته به ليلى؟
أراد إغلاق النافذه فانتبه لفتاةٍ تجلس وحيده تحت شجره...
يعرف أهل القريه إلا انه لم يرى هذه الفتاة قبلاً...
كانت تجلس في هدوء... تخيل إليه أنها تبكي...
كان نور القمر يصطدم بوجهها فيرتد تعكسه دموعها...
لم يطق صبراً ليخرج من الباب بل تسلق الشجرة الملاصقة لنافذته نزولاً...
تردد في بادئ الأمر... نظر يمنةً ويسرى فلم يرى سواهما...
تجرأ و ألقى التحية...
ردت عليه بأحسن منها...
سمع في صوتها شدو البلابل وتغريد العصافير...
احتار كيف يبدأ فسألها: لماذا تبكين؟!!
نظرت إليه مبتسمة وقالت : أنا لا ابكي!!!
نظر في عينيها فرأى فيهما موج البحر ولآلي تلمع...
تحركت من مكانها فتبعها...
انشرح صدره فتلعثم قبل أن يسأل : ما اسمك؟!!
نظرت إليه بدلال, شعر إن الوقت قد توقف به في اجمل لحظه...
أجابته برقه : سمِني أنت...
بدى في حيره ...
نظر إلى السماء لبرهةٍ ثم ركّز بصره على وجهها و قال: قمر!!!
ضحكت ضحكه رقيقه وقالت : ألهذا الحد أشبهه؟
أجاب بصوتٍ خافت و دون تفكير: بل اجمل...
غطت وجهها بيديها سعيده , أمالت رأسها قليلاً وهي تنظر إليه مبتسمه...
كانت كمن يتلذذ بطعم الكلمة , أغمضت عينيها وتنفست ببطء...
كان الهواء يداعب شعرها فيتماوج كستارةِ ليلٍ داج...
مسحت على شعرها بإحدى يديها ويدها الأخرى على خدها...
حركاتها هذه أشعلت في صدره ناراً كان النابض منه جذوتها...
مشت و مشى معها يتجاذبان أطراف الحديث...
يتكلم فتقبل عليه منصته وحين تتحدث يستمع إليها بروحه...
لا يدري كم من الوقت مشيا لكنه متأكد من أن هذا ما يريده...
وصلا إلى شجرةٍ يانعةٍ فروعها ممتدة و أوراقها كثيفة...
جلسا تحت الشجرة واستندا بجزعها...
يتمنى أن يعرف اسمها, فجأة وكأنها تقرأه, قالت: ليلى, اسمي ليلى...
هام باسمها, خطر في باله أن لو رآها قيس لترك ليلاه و أحب هذه...
تحدثا كثيراً حتى اخذ منها التعب كل مأخذ فأغمضت عينيها...
نظر إلى وجهها البدري تحت ضوء القمر...
رفع يده ليزيح خصلات شعرٍ تساقطت على وجنتيها...
فتحت عينيها ... نظرت إليه بدلال وقالت: ماذا تنوي؟!!
تابعت كلامها قائلة خير الحب ما كان نقياً طاهرا, ألا تعرف الحب العذري؟!!
أعاد يده مبتسماً وقال: بلى...
عرف معنى الحب العذري, لأن تكون جواره فقط خير من أن يفقدها...
فوجوده معها هو اجمل ما حدث له في حياته...
تمنى أن تدوم هذه اللحظة باقي عمره...
ما هي إلا لحظات حتى استسلمت للنوم, خلع معطفه وغطاها به...
استلقى جوارها, ينظر إلى النجوم, غلبه النوم فغط في سباتٍ عميق...
لم يستيقظ إلا على صوتِ شخصٍ يسأل: من هذا؟ وكيف ينام هنا؟!!
أجاب صوتٌ آخر: ربما كان مجنوناً من مجانين ليلى!!!
فتح عينيه...
أول ما وقع بصره , كان على جذعٍ اسود لشجرةٍ ميته...
نظر إلى الأعلى فرأى أغصاناً يابسة شائكة خالية من الورق و رأى معطفه أعلى الشجرة...
هب مذعوراً وجِلاً...
لم يرى أحد , كل ما رآه كانت شواهد على قبورٍ قديمه...
اتكأ على جزع الشجرة خائفاً فاهتزت وطار من بين أغصانها غرابٌ ينعق...
وجد في يده ورقه فتحها ليجدها بخط يده وقد كتب فيها:
" كانت ليله قبيحة جداً وكانت من عائله اشتهرت بالشعوذة فسحرت قيساً ودفنت السحر تحت شجرة الساحرات النابتة في المقبرةِ البعيدة عند أطراف الوادي"...
بحثَ عن آثارها فلم يجد إلا آثار خطواته...
أطلق ساقيه للريح حتى إذا وصل باب المقبرة وجد عليه قفل من الخارج وقد علاه صدأ السنين...
سمع صوتاً لا يعرف مصدره: انه قيس , مجنون ليلى...
صوتٌ آخر أجاب:" أتستحق ليلى ما يفعله من أجلها قيس؟ وهل يستحق قيس ما تفعله به ليلى؟"
انطلق على غير هدى, تسلق سور المقبرة و رمى بنفسه خارجها...
سقط أمام رجل أشعث الشعر غائر العينين... "هوائي"
قال له الرجل بصوتٍ كالرعد: ابحث عنها لتستعيد رشدك...
نظر حوله, وجد نفسه في المقبرةِ القديمة عند أطراف الوادي...
طار صوابه فانطلق يجري...
لم يعد إلى قريته بل سلَكَ اتجاه آخر...
من يومها "فقد رشده فهام على وجهه في الأودية و الغفار,
يصرخ "ليلى" حتى يسقط مغشي عليه"...
و إذا أفاق نظر إلى البعيد...
إلى الأفق وصاح:
لـــــــــــــــيــــــــــــــــلـ ــــــــــــى...